جمعيات ومنظماتشؤون خارجية
السيناريو الأوكراني غائب عن حسابات روسيا في الأزمة البيلاروسية
مع استمرار موجة التظاهرات والإضرابات في عموم أنحاء بيلاروسيا للأسبوع الثاني على التوالي، تواجه روسيا خطر نشوء بؤرة توتر جديدة في الفضاء السوفييتي السابق، متخوفة من توجه مينسك نحو مزيد من التقارب مع الغرب في حال سقوط الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي يتولى زمام السلطة في البلاد منذ أكثر من ربع قرن.
ثمة مؤشرات تؤكد أن الدعم الروسي للوكاشينكو سيكون محدوداً ومشروطاً، بعد أن ألحق مجموعة من الضربات الأليمة بالعلاقات الروسية البيلاروسية، بدءاً من توجهه نحو تطبيع العلاقات مع الغرب، وخوضه حروباً نفطية طاحنة مع شركات النفط الروسية والتنصل من التكامل الاقتصادي مع روسيا، وصولاً إلى الواقعة الأخيرة لاحتجاز أكثر من 30 مواطناً روسياً للاشتباه بانتمائهم لشركة “فاغنر” العسكرية الخاصة.
يعتبر مدير عام مركز المعلومات السياسية بموسكو أليكسي موخين، يعتبر أن موسكو كانت تتوقع التطورات الجارية في بيلاروسيا، بعد أن راهن لوكاشينكو على شركائه الغربيين الجدد، مرجّحاً أن يقتصر دور موسكو على ضمان قانونية الوضع.
ويستبعد احتمال تكرار السيناريو الأوكراني في بيلاروسيا لصالح جهة صعود سلطة جديدة معادية لروسيا، في حال سقوط النظام السياسي الحالي.
يقول: “تنظر روسيا إلى التطورات البيلاروسية بشيء من الرصانة، وكان من الواضح من تصرفات لوكاشينكو وأعماله المعادية لروسيا التي توجت بتوقيف مجموعة من المواطنين الروس، أنه اختار شركاءً جدداً، فتبيّن أنهم ليسوا شركاء، بل دبّروا استفزازات ضده بعد الانتخابات الرئاسية. أما روسيا، فمن المرجح أنها ستؤدي دور الضامن لقانونية الوضع”.
ويرى أن “بيلاروسيا تتميز بدرجة عالية من الاندماج مع روسيا تصل إلى دولة الاتحاد بينهما، ولذلك يختلف واقعها السياسي اختلافاً كاملاً عن أوكرانيا”.
القوى الغربية الكبرى لا تريد التدخل
توقع الأستاذ بالجامعة الأوروبية في سانت بطرسبورغ إيفان ميكيرتوموف، عدم تدخل موسكو في بيلاروسيا إلا في حال قبل لوكاشينكو بشروطها، من دون استبعاد احتمال قبول موسكو بتغييره عن طريق “انقلاب القصر” أو إقامة العلاقات مع السلطة الجديدة وفق نموذج العلاقات مع أرمينيا التي شهدت تغييراً للسلطة في عام 2018.
في مقال بعنوان “خيارات بوتين. ماذا يمكن لموسكو أن تفعل للوكاشينكو؟” نُشر بصحيفة “ريبابليك” الإلكترونية، لفت ميكيرتوموف إلى أن مؤسسات “الدكتاتورية البيلاروسية” فقدت مضمونها. ولم تعد حيلها ومناوراتها لها نفس التأثير السابق على المجتمع، متسائلاً حول مدى ولاء الأجهزة الأمنية للرئيس.
اعتبر كاتب المقال أن عجز لوكاشينكو عن إصدار أمر مصيري للجيش والأجهزة الأمنية سيؤدي إلى إراقة الدماء لا يعود إلى خشيته من تداعيات العنف، وإنما إلى التخوف من عصيان المنفذين، مثلما خشي منه الرئيس الأوكراني المعزول، فيكتور يانوكوفيتش، أثناء تظاهرات ميدان كييف في عام 2014.
الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يواجه معضلة مماثلة، إذ لا يمكنه السماح بسقوط لوكاشينكو وانكسار نظامه وظهور بيلاروسيا جديدة قد تسلك طريق دول البلطيق، أي لاتفيا وليتوانيا وإستونيا التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في عام 2004 وتتبنى مواقف معادية لموسكو في الملفات الدولية.
الخيارات العدة المتوفرة أمام الكرملين للإبقاء على بيلاروسيا ضمن مجال النفوذ الروسي:
لخص ميكيرتوموف أولها في إجراء “انقلاب ناعم داخل القصر” على غرار تنحي الرئيس الروسي الراحل، بوريس يلتسين، ليلة رأس سنة 2000 وتعيين “بوتين البيلاروسي”، أي ضابط “كي جي بي” شاب تختاره موسكو خلفاً للوكاشينكو.
جوهر الخيار الثاني فيتمثل في “الاحتلال الشقيق” على غرار التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا السابقة (انقسمت عام 1993 إلى دولتي تشيكيا وسلوفاكيا) عام 1968، ثم الضم.
يسمح الخيار الأخير بوصول شخصيات جديدة إلى سدة الحكم، مثلما تم في أرمينيا مع استثمار اعتماد البلاد بشكل كامل على روسيا لمطالبتهم بالدرجة اللازمة من الولاء، وأخيراً محاولة الحفاظ على لوكاشينكو بشكله الحالي مهما كان الثمن.
رأى كاتب المقال أن سيناريو بقاء لوكاشينكو سيكون أسوأ بكثير من “انقلاب القصر” أو “الاحتلال الشقيق”، كونه سيؤدي إلى تجميد الثورة وفقا للنموذج الفنزويلي مع بقاء الزعيم في مكانه مقابل هدم المجتمع والدولة.
فرضية “الانقلاب الناعم في القصر” تكبر في موسكو
تناولت وكالة “نوفوستي” الحكومية الروسية دلالات عزوف الغرب عن فرض عقوبات فعالة ضد بيلاروسيا واكتفاء وزراء خارجية بلدان الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة الماضي، بالاتفاق على إعداد قائمة سوداء جديدة للمسؤولين البيلاروسيين، على عكس فرضهم عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا على خلفية تدخلها في أوكرانيا عام 2014.
في مقال بعنوان “لماذا لا يتمنى الغرب سقوط ألكسندر لوكاشينكو؟”، تساءلت الوكالة عن أسباب عزوف أي من قادة الدول الغربية عن مطالبة لوكاشينكو بالتنحي الفوري عن السلطة وتسليمها للشعب المنتفض في الجمهورية الوحيدة المتحالفة مع روسيا على الاتجاه الغربي، لإلحاق الهزيمة به وجر البلاد إلى منطقة نفوذهم.
أرجعت كاتبة المقال تردد الغرب إلى مجموعة من العوامل، بما فيها الشروخ العميقة بين الولايات المتحدة وأوروبا القارية وبريطانيا وأخرى داخل الاتحاد الأوروبي، وهامشية بيلاروسيا قياساً بالسعي للتوصل إلى نوع من الإجماع حول القضايا الإستراتيجية الكبرى مثل الصين وروسيا، واختلاف المجتمع البيلاروسي عن مثيله الأوكراني من جهة قلة أنصار التوجه نحو التكامل مع أوروبا.
خلصت “نوفوستي” إلى أن القوى الغربية الكبرى لا تريد التدخل في الأحداث البيلاروسية إدراكاً منها أن فرص الفوز ليست بديهية، والمكاسب المحتملة مشكوك في جدواها، ولكن المشكلات والأعباء مضمونة بصرف النظر عن نتيجة الأزمة.
صبّ الاتصال الهاتفي بين بوتين والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لمناقشة الوضع في بيلاروسيا، أمس الثلاثاء، في هذا السياق، مع تشديد بوتين على رفض أي محاولات للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية البيلاروسية تؤدي إلى تصاعد الأزمة، معرباً عن أمله في تهدئة الوضع في أسرع وقت.
المصدر: وكالات