أخبار

أوكرانيا وغزة وإرث الجيش الأميركي في مكافحة التمرد

يقول المؤرخ العسكري الأميركي، جيان جنتيل: إن حربَي أوكرانيا وغزة تقدمان مختبراً للدراسة بالنسبة للمهنيين العسكريين والمؤرخين والمحللين، مشيراً إلى أن دراسة حرب حالية لمساعدة المنظمات على فهم الصراع المستقبلي والاستعداد له ليس بالأمر الجديد.

ويضيف جنتيل، وهو كولونيل متقاعد في الجيش الأميركي، خدم لسنوات عدة أستاذاً للتاريخ في الأكاديمية العسكرية للولايات المتحدة في «ويست بوينت» في تقرير نشرته مؤسسة «راند»، أنه بالروح نفسها، من المنطقي تماماً أن تدرس المنظمات العسكرية الأميركية كلاً من الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة،

وأن تستخلص رؤى من كلتيهما.

وبالنسبة للجيش الأميركي على وجه التحديد، سرعان ما أصبحت الدروس «المستفادة» من عمليات مكافحة التمرد السابقة نوعاً من القيود الفكرية خلال حربَي العراق وأفغانستان.

ويقول جنتيل، كما نقلت عنه الوكالة الألمانية: إنه لم تكن هناك سوى طريقة واحدة متصورة للقيام بعملية مكافحة التمرد بشكل صحيح، وهي اتباع «الدروس» المناسبة من التاريخ، والالتزام الصارم بالتوجيهات الواردة في الدليل الميداني لمكافحة التمرد لعام 2006 الصادر عن الجيش الأميركي. وتمت كتابة هذا الدليل الميداني تحت إشراف الجنرال ديفيد بترايوس، وجاء ليجسّد نوعاً من القيود الفكرية التي رأت أي نوع من التفكير الإبداعي حول الاستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق وأفغانستان، وأي فكرة لا يمكن العثور عليها في صفحاتها، نوعاً من الهرطقة.

ولكن هل تصف وجهة النظر هذه سكان بغداد في عام 2006، في ذروة الحرب الأهلية الشيعية – السنية؟ هل تعكس هذه النظرة، في هذا الصدد، ما يعيشه الجنود الإسرائيليون في غزة اليوم؟

خلال حروب مكافحة التمرد الأميركية، دفع دعاة مكافحة التمرد بناء هذه الرواية، التي صدقها الكثيرون في الجيش الأميركي. وعلى المنوال نفسه، دفعوا بأنه إذا كان من الممكن «تعلم» رواية مكافحة التمرد التي تركز على السكان والمستمدة من «دروس» التاريخ، لأثبتت الولايات المتحدة نجاحها في نهاية المطاف في العراق وأفغانستان.

ومع ذلك، خلال سنوات العراق وأفغانستان، نشر دعاة مكافحة التمرد ما يسمى «الدروس المستفادة» من حروب مكافحة التمرد السابقة، مثل البريطانيين

في مالايا في خمسينات القرن العشرين والولايات المتحدة في فيتنام من 1965 إلى 1972، بحجة أن تلك الحروب أظهرت أن هناك «طريقة صحيحة» للقيام

بمكافحة التمرد.

وفي العراق، من 2003 إلى 2006، وفي أفغانستان، في وقت مبكر من عام 2005، قال المدافعون عن مكافحة التمرد: إن الجيش الأميركي لم يفهم تماماً تلك الدروس. ودفعوا بأن الجيش الأميركي كان يفشل في العراق؛ لأن الجيش لم يكن يطبّق الدروس المستفادة من استراتيجية مكافحة التمرد التي تركز على السكان.

وخلال هذه السنوات في منتصف العقد الماضي، أصبحت حجج دعاة مكافحة التمرد مشحونة للغاية لدرجة أنهم بدأوا في تقديم تأكيدات على أن جميع

الحروب المستقبلية لن تكون مثل العمليات القتالية واسعة النطاق في الماضي، ولكن بدلاً من ذلك ستكون حروباً تخاض بين الأشخاص لكسب «القلوب

والعقول».

وذهب هؤلاء المدافعون إلى حد القول بأن «البيئة الاستراتيجية» قد تغيرت كثيراً مع العراق وأفغانستان لدرجة أن إعادة الهيكلة الكاملة للجيش الأميركي كانت ضرورية من أجل تحسينه لعمليات مكافحة التمرد المستقبلية.

وحتى اليوم، لا تزال بقايا طريقة تفكير دعاة مكافحة التمرد باقية. فعلى سبيل المثال، قال العالم السياسي روبرت بيب مؤخراً في مقال رأي نشرته شبكة «سي إن إن»: إنه يجب على إسرائيل أن تولي اهتماماً للدروس المستفادة من حربَي مكافحة التمرد الأميركيتين في العراق وأفغانستان، وأن تفهم ما أسماه «رياضيات مكافحة التمرد».

واقتبس بيب في مقاله من الجنرال ستانلي ماكريستال من خطاب ألقاه عام 2009، حيث اقترح ماكريستال أن النهج الصحيح لأفغانستان هو نفسه نهج بترايوس لمكافحة التمرد في العراق والذي يتمثل في حماية السكان، وفصل السكان عن المتمردين، وقتل أو أسر المتمردين والتحلي بالصبر، وإذا تم فعل كل هذا، فإن النجاح محتمل. ومع ذلك، فإن الفكرة القائلة بأن أساليب بترايوس لمكافحة التمرد في العراق في عامي 2007 و2008 قلبت الحرب وحققت انتصاراً للجيش الأميركي كانت، في هذه المرحلة، موضع خلاف إلى حد كبير وفعال.

ولحسن الحظ اليوم بالنسبة للأمن القومي للولايات المتحدة، لم ينتقل الجيش الأميركي إلى قوة «للحرب بين الأشخاص» كما كان يرغب بعض المدافعين

عن مكافحة التمرد. ولا ينبغي له أن يستمع الآن إلى المحللين الحاليين الذين يدافعون عن هذه الأفكار الفاشلة العالقة.

وفي الواقع، إذا كانت هناك رؤية واحدة كبيرة ظهرت من الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة، فهي أن العمليات القتالية واسعة النطاق ليست بالتأكيد

شيئاً من الماضي، وأن الجيش الأميركي، إلى جانب بقية القوة المشتركة، قد يجد نفسه في نوع مماثل من حرب إطلاق النار في المستقبل القريب.

ويقول جنتيل: «لذا؛ بينما نمضي قدماً في التحضير للحرب الحالية والمستقبلية، دعونا نتجنب نوع القيود الفكرية التي فرضها عصر مكافحة التمرد على الجيش الأميركي».

ويضيف، أن هناك الكثير من الرؤى الكبيرة الأخرى من أوكرانيا وغزة التي يجب على الجيش الأميركي والقوة المشتركة الانتباه إليها. والأكثر إلحاحاً ووضوحاً هو أن استنزاف الأفراد والمعدات جزء لا يتجزأ من العمليات القتالية واسعة النطاق. وفي أوكرانيا، على سبيل المثال، بعد ما يقرب من عامين من الحرب، عانت روسيا من ما يقرب من 300 ألف ضحية، قتل منهم ما يقرب من 120 ألفاً في المعركة. وعند مقارنة هذا بما يقرب من 41 ألف أميركي قتلوا في حرب السنوات السبع في فيتنام، يمكن للمرء أن يقدر القدر الكبير من الاستنزاف في حرب أوكرانيا.

ويمكن القول: إن القوة المشتركة الأميركية هي واحدة من أكثر القوات العسكرية كفاءة واحترافاً في استعراض القوة في العالم، مع وفرة من الأسلحة الرائعة والدقيقة. والواقع أن هناك نظرة ثاقبة كبيرة ناشئة من أوكرانيا على وجه التحديد، وهي أهمية وجود مخزونات وفيرة من الذخائر الدقيقة وغير الدقيقة. وبالتالي، هناك حاجة إلى قاعدة صناعية دفاعية أميركية قوية للحفاظ على جهود الدعم الأميركية في أوكرانيا وإسرائيل، وإذا لزم الأمر، السماح للقوة المشتركة الأميركية بالحفاظ على أي عمليات قتالية كبرى في المستقبل.

ويقول جنتيل: إن رغبة أوكرانيا في إنتاج قوة هجومية ميكانيكية لكسر الجمود الحالي وطرد القوات البرية الروسية من أراضيها هي شهادة على هيمنة الهجوم. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن تأمل بها أوكرانيا في طرد القوات الروسية من وطنها هي من خلال العمليات الهجومية. وإن البقاء في موقف دفاعي لأوكرانيا لن يؤدي إلا إلى مساعدة أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «المتطرفة» في أوكرانيا.

ويضيف، أنه بالمثل، فإن حرب إسرائيل في غزة تثبت أيضاً التفكير المعيب بأن الدفاع أصبح الشكل السائد للحرب. ويتساءل: هل يعتقد أحد حقاً أن الجيش

الإسرائيلي قادر على تحقيق هدفه السياسي المتمثل في تدمير «حماس» من خلال البقاء في موقف دفاعي؟ وأخيراً، وربما الأهم، هو أن أوكرانيا وغزة تثبتان أن الحرب «وحشية ولا يمكنك تهذيبها»، كما أشار جنرال الاتحاد ويليام تيكومسيه شيرمان قبل أكثر من 150 عاماً خلال الحرب الأهلية الأميركية.

إغلاق