شؤون سياسية

قمة رباعية حول أوكرانيا تمثل اختباراً دبلوماسياً لماكرون وزيلينسكي

بدأت مساء أمس الاثنين في باريس أعمال قمة «رباعية نورماندي» التي تضم كلا من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وينظر إلى هذه القمة التي تأتي بعد قرابة خمس سنوات من النزاع بين الانفصاليين الموالين لروسيا وقوات الحكومة الأوكرانية في شرق أوكرانيا، على أنها تمثل اختبارا دبلوماسيا للرئيس الفرنسي والأوكراني.

لأول مرة أثير موضوع عقد القمة في اللقاء الذي ضم الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والروسي فلاديمير بوتين في منتجع بريغونسون المطل على البحر الأبيض المتوسط في 19 أغسطس (آب) الماضي وعاد الأول لطرحه مجددا بمناسبة قمة البلدان الـ7 في منتجع بياريتز، نهاية الشهر نفسه. وفي الأشهر الأخيرة، بما في ذلك إبان القمة الأطلسية التي عقدت في لندن، الأسبوع الماضي. لكن التقارب مع روسيا، من المنظور الفرنسي، لا يمكن أن يتم ما دام لم يحصل تقدم في الملف الأوكراني الذي يسمم العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا علما بأن الأوروبيين يفرضون منذ العام 2014 عقوبات على موسكو بسبب حرب أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.

لذا، رأى ماكرون أن هناك فرصة لإعادة تفعيل ما يسمى «صيغة نورماندي» التي تضم الدول الأربع (فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا) والتي تسمى كذلك لأنها انعقدت للمرة الأولى في منطقة النورماندي بمناسبة احتفالات بإنزال الحلفاء الكبير خلال الحرب العالمية الثانية. والحال أن هذه الصيغة معطلة منذ العام 2016 بسبب استمرار الحرب في مناطق شرق أوكرانيا الانفصالية والاتهامات المتبادلة بين موسكو وكييف بشأن عدم تنفيذ بنود «معاهدة مينسك» التي ترسم خريطة طريق لوضع حد للحرب ولحل سلمي. يضاف إلى ذلك أن وجود الرئيس الأوكراني السابق بوروشينكو البالغ التشدد والرافض لأي تسوية وسطية لم يكن يساعد الطرفين الفرنسي والألماني على بذل الجهود الدبلوماسية لحلحلة الوضع.

لكن وصول رئيس جديد في كييف هو فولوديمير زيلنسكي الرافض للحرب والساعي لإغلاق الملف فتح كوة في جدار الأزمة. وأسفرت الاتصالات الهاتفية بينه وبين بوتين إلى عملية تبادل لأسرى وانسحاب الوحدات الأوكرانية وميليشيات الدونباس من قريتين عن ترطيب الأجواء. كذلك عمدت روسيا إلى تسليم إعادة البحارة الأوكرانيين الذين كانوا قيد الاحتجاز لديها وكذلك السفن الحربية التي كانوا على متنها إلى أوكرانيا. وكان واضحا أن هذه الانفراجات جاءت لتعيد فتح الأبواب من أجل تفعيل الجهود الدبلوماسية الأوروبية. والسؤال الرئيسي الذي طرحته المصادر الفرنسية دار أساسا حول مدى استعداد بوتين وزيلينسكي للسير في تنفيذ بنود «معاهدة مينسك» الموقعة في 12 فبراير (شباط) عام 2015 ووضع حد لهذه الحرب على الأراضي الأوروبية التي أوقعت ما يزيد على 13 ألف قتيل. وكان من المنتظر أن يركز المجتمعون على مضمون المعاهدة التي تنص على وقف فوري لإطلاق النار شرق أوكرانيا وسحب الأسلحة الثقيلة وإعادة سيطرة الإدارة المركزية على الحدود مع روسيا وإجراء انتخابات ومنح شرق أوكرانيا إدارة ذاتية موسعة.

قبل أن تبدأ القمة الرباعية في قصر الإليزيه أمس، عقدت أربعة اجتماعات منفصلة بين القادة الأربعة للتعرف على حقيقة موقف كل طرف وعلى هامش التحرك المتاح للوساطة الفرنسية – الألمانية. لكن العلاقات بين برلين وموسكو متوترة هذه الأيام بسبب اتهامات ألمانية لجهات ذات علاقة بالدولة الروسية باغتيال معارض من جورجيا في العاصمة الألمانية. ورغم ذلك، أكد وزير خارجية ألمانيا أن بلاده «سوف تقوم بكل ما هو ممكن للتقدم باتجاه السلام في أوكرانيا». واستبعد هايكو ماس إلغاء العقوبات الاقتصادية حاليا، التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا نهاية يناير (كانون الثاني) المقبل. وقال ماس على هامش اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي: «سيكون من المناسب أن نصل إلى هذا الأمر في وقت ما»، مضيفا في المقابل أنه لا يرى حاليا أي تغيرات في الوضع يمكن التصرف على أساسها، وقال: «سنواصل حاليا ما نراه في الاتجاه السليم. هذا يعني تمديد العقوبات إذا ظلت الأسباب التي أدت إليها قائمة».

كان واضحا أن رغبة زيلينسكي بإحراز تقدم ملموس تقف عند حدود حرصه على عدم إعطاء انطباع بالتساهل مع بوتين أو المقامرة بالمصالح الأوكرانية. وقال زيلينسكي عقب انتخابه هذا العام إنه يعطي أولوية قصوى لمسألة حل النزاع شرق أوكرانيا مع روسيا. وقبيل بدء محادثات القمة، قللت المتحدثة باسم الرئيس الأوكراني، يوليا مندل من التوقعات بحدوث أي تقدم كبير. وأضافت في منشور على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»: «الحرب في دونباس لن تنتهي في العاشر من ديسمبر (كانون الأول)».

والسؤال الصعب الذي كان على ماكرون وميركل التعامل معه يتناول تمسك كل طرف بقراءته لـ«زمنية» تنفيذ معاهدة مينسك وتحديدا معرفة ما إذا كان نزع السلاح يسبق الانتخابات أم يتبعها. فروسيا التي تنفي أي دور لها في دعم الانفصاليين في دونتسك ولوغانسك تريد الانتخابات أولا فيما كييف تطالب بالعكس. ويربط زيلينسكي الانتخابات بعدة شروط أولها حل كل الميليشيات واستعادة كييف السيطرة على حدودها الشرقية مع روسيا.

قبل وصوله إلى باريس، كشف زيلينسكي عن «طموحاته» من القمة ولخصها بثلاثة: تبادل جديد للأسرى، إقامة وقف إطلاق نار دائم وحل كل المجموعات «غير الشرعية» المسلحة أي الميليشيات التي تحظى بدعم روسي الموجودة على الأراضي الأوكرانية. ولا تبتعد طموحات الإليزيه عن طروحات كييف إذ أفادت مصادره، في معرض تقديمها للقمة أن باريس تسعى لإحراز تقدم لجهة تعزيز وقف إطلاق النار ونزع الألغام على خط المواجهة وتحييد مناطق انسحاب متبادلة وأخيرا تبادل جديد للأسرى.

ثمة قناعة متجذرة لدى الأطراف الغربية أن بوتين يريد التخلص من العقوبات الأوروبية وهو يعي أن ذلك لن يحصل ما دام الملف الأوكراني ساخنا. لكنه في الوقت عينه يرغب في منطقة نفوذ في أوكرانيا تضعف هذا البلد وتمنعه من الالتحاق بالحلف الأطلسي وهو ما كان يسعى إليه بوروشينكو. ولذا، فإن إعطاء شرق أوكرانيا إدارة ذاتية موسعة سيكون بمثابة «حصان طروادة» لبوتين ومن المنطقي أن يتمسك به.

صحيفة “الشرق الأوسط”

إغلاق